يشرح  د. عبد القادر توران في مقالته أسباب فتور الناس والمسلمين وعدم مبالاتهم وتأثرهم بالأحداث:
 

     تُرتكب إبادة جماعية في فلسطين أمام نظر العالم. لقد ارتُكبت العديد من الإبادات في العالم سابقاً. لكن في عالم الماضي لم يُسمع عن الإبادات عادةً، فقلما وُجد أي تماس واتصال لها مع ضمير الإنسان. أما في عالم اليوم، فـيصل صوت الأطفال الفلسطينيين إلى الآذان في أقصى أنحاء العالم. لكن رغم ذلك فإن شعوب العالم -باستثناء بعض المسلمين وبعض الفئات المتعاطفة- لا تستجيب لصرخات الأطفال. ولا تستجيب لصرخة من بعيدة قائلة: "نحن نُقتل". والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي متورطتان شخصياً في الإبادة الجماعية. لكن ماذا عن الآخرين؟ فيبدو أنه لا يوجد أي رد منهم "يدين" الإبادة الجماعية لفلسطين.


     لماذا هكذا هو الموقف تجاه الإبادة الجماعية؟ لهذه المشكلة أسباب عالمية وأسباب تتعلق مباشرة بالعالم الإسلامي:

 

حيوانية "الإنسان الاقتصادي"

     إن رقي الإنسان مبني على القيم الإنسانية. وعندما يتجاهل الإنسان تلك القيم ويفكر من الناحية الاقتصادية الصرفة، فقد سقط من الإنسانية إلى البشرية.

     في عالم ما قبل الحداثة، كانت هناك شكوى من أن القيم قد وصلت إلى مستوى التزمت. أما في العصر الحديث، تم التخلي عن تلك القيم واحدة تلو الأخرى، وتم علمنة السياسة العالمية بشكل عام. وأُدخلت الأخلاق العلمانية/الدنيوية إلى السياسة العالمية، خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية. فقد ظنت الإنسانية أنها عندما تصير علمانية، فإنها ستتخلص من التزمت والتعصب وتكسب عالماً أكثر اهتماماً وتعاطفاً لحقوق الإنسان. وبهذا التحول، ولأول مرة في التاريخ تمت مقارنة حقوق الإنسان التي وعدت بها حضارة ما بعد الإسلام بحقوق الإنسان التي قدمها الإسلام للإنسانية.

     ومع ذلك، تم خداع الإنسانية. لأن مصدر الأخلاق العلمانية/الدنيوية وأعلى سلطة عليها وصاحب القوة كان "بشراً"، فكان هناك تهديد بأن تتغير تلك الأخلاقيات وفقاً للمصلحة الذاتية. وطالما وُجد مثل هذا التهديد ضد الإنسانية، فإن الإنسانية لم تعتبر آمنة، والحقوق الموعودة لها كانت معلقة بخيط قطن، إذا جاز التعبير.

     في الواقع، لثمانين عاماً تشهد الإنسانية كيف أن الغرب مزدوج المعايير فيما يتعلق بحقوق الإنسان في مواقف لا تتعلق بسياسته الخارجية أو أمنه الداخلي. ورغم أن مناهضة العنصرية هي ألفباء حقوق الإنسان وأول خطواتها. لكن الحال بالنسبة لإسرائيل اليوم، مثل جمهورية جنوب أفريقيا الأمس، فالغرب طرف في العنصرية بكل وضوح.

     تجاربنا وما عشناه أظهرت لنا أن: بالنسبة للغرب، فحقوق الإنسان ليست مسألة أساسها الإنسان، بل هي مسألة يمكن استغلالها لأجل منافع ومصالح يومية. وأن الغرب لم يتبنى حقوق الإنسان باعتبارها حقوقا عالمية، بل هو يراها مادةً يمكن استخدامها لأجل سياساته.

     لكن هناك نقطة أخرى فاتتها الإنسانية في العلاقة بين العلمنة/الدَّنيَوة وحقوق الإنسان. إذ أن العلمنة هي عملية ذات بعدين: ذهنية ومعيشية. وإكمال هذه العملية مثلما قد يستغرق وقتاً قصيراً جداً، قد يستغرق عدة أجيال. والإنسان الذي أكمل عملية العلمنة، لم يعد ينظر إلى العالم من نافذة القيم، بل من نافذة الاقتصاد. وهذه حالة الحيوانية، أو بتعبير آخر، حالة النزول عن الإنسانية إلى البشرية.

     علي‌يا عزت‌بك‌اۋيچ، الذي شهد عدم مبالاة العالم تجاه المعاناة في البوسنة، هو أحد المفكرين النادرين الذين يستطيعون إدراك العلاقة بين العلمنة والابتعاد عن الإنسانية. وهو يرى أن العلمنة عندما تصل إلى بعدها الأخير، لن يعد من الممكن الحديث عن المشاعر الإنسانية مثل الرحمة والشفقة والمواقف الإنسانية مثل الفداء والتضحية. لأن هذه المشاعر والمواقف تنبع في صميمها من الدين.

     واليوم، الإنسانية تجاوزت حتى العلمنة التي كانت موضوع شكوى عزت‌بك‌اۋيچ. فنحن نواجه عالما يتمحور بكامله حول "المتعة". هذه "المتعة" تعني "الاستهلاك"، و"الاستهلاك" يتطلب موارد اقتصادية. في العالم كهذا، تكون المواقف "الإنسانية" محاكية للمواقف الحيوانية التي تعمل في سياق "الطعم والشهوة والخوف".

     ومثل هذا "الإنسان"، فإن أساس علاقته بالحكومات ليس فيه أي قيم إنسانية، بل المصالح الاقتصادية. وتوقعه الرئيسي من حكومته هو توفير بيئة اقتصادية تمكنه من الاستمتاع بملذاته. ولذلك، فيكون بنظره أن أي مرشح للحكم يستطيع الحفاظ على الظروف الاقتصادية جيدةً هو الأجدر بالتواجد في الحكم. وهذا الوضع يجبر الحكومات على انتهاج سياسة الاقتصاد، والحكومة التي تستسلم تماماً لهذه السياسة هي في الأساس حكومة علمانية/دنيوية/أرضية، مهما كانت القيم التي تتحدث عنها.

     الاقتصاد العالمي في أيدي اليهود. وتتوارث الحكومات القلق من تدهور وضعها الاقتصادي إذا تدهورت علاقاتها مع اليهود. ولذلك، فبدلاً باتخاذهم مواقف قد تثير غضب اليهود، فهم يتنافسون على مواقف تنال استحسانهم. وشعوبهم يوافقون على ذلك بشكل غير مباشر. لأن الشعوب ترى أي نهج سياسي غير مركز على الاقتصاد لأي السبب قد يكون، أنه غير عقلانية.

     إن تدني الإنسان من رتبة الإنسانية إلى البشرية، وعمل عقله بشكل أكثر حيوانية ، هو السبب العالمي والرئيسي لعدم المبالاة تجاه القضية الفلسطينية اليوم. وبسبب هذه البشرية الهابطة، فالمقاطعة لمنتجات الشركات الداعمة للجيش الإسرائيلي مباشرةً، لم تعد فعالةً.

 

لماذا العالم الإسلامي غير مبال؟

عدم المبالاة الموجودة في العالم الإسلامي لها عدة أسباب تكمل بعضها البعض:

 

1. العلمنة الأيديولوجية:
     المسجد الأقصى مسألة إيمان. فهناك علاقة مباشرة بين قوة الإيمان والاهتمام بالمسجد الأقصى. أي كلما قوي الإيمان زاد الاهتمام بالمسجد الأقصى، وكلما ضعف الإيمان زاد انعدام المبالاة تجاه المسجد الأقصى.

     وحصان طروادة للعلمنة بين المسلمين هو العنصرية. فالعنصرية تقسم المسلمين وتغير عالم مبادئهم ومنظومة قيمهم في عالم العقل. فقبل العنصرية، كان الفرد والمجتمعات ينظرون إلى العالم من نافذة مبادئ الإسلام، أما بعد العنصرية، صاروا ينظرون إلى العالم من خلال نافذة رموز وطنية مفبركة. وأي توليفات منتجة لمواجهتها لن تنفع شيئا أكثر من مجرد الخداع ومحاولة التعزية في نهاية المطاف. وإن كافة أشكال القومية الحديثة في العالم الإسلامي أُنتجت في الغرب وفي المحافل الماسونية/واليهودية عموماً. ولذلك، حتى القومية العربية إلى اليوم لم تساهم في قضية القدس سوى التقليل من ارتباط عناصر أخرى من الأمة بها. إذ في النهاية، الفكر القومي يرى أن "الأمة = القوم" و"الدولة القومية" هي القيم الأكثر قدسية. وفي عالم اليوم، حيث يرتبط بقاء "الدولة القومية" تماماً بالغرب، فلا يوجد تيار قومي يتبنى قضية القدس بإخلاص. فجميعهم يقفون إلى جانب القدس بقدر ما يخدم "المصالح القومية". وفي حين أن الفكر القومية يفترض أنه تيار عاطفي، فإن هذا الموقف "العقلاني/الرياضي" المتطرف مثلما يعيق موقف الأمة من قضية القدس، فهو قد يؤدي أيضا إلى عمليات تحرير وهمية، تخدم بشكل مباشر مشاريع "العجز المكتسب" للصهاينة.

     واليوم، قامت القومية العربية الما بعد الحديثة المتمركزة في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بدمج "المصلحة القومية" مع مصلحة الأسرة الحاكمة. وهذه القومية الجديدة ترى أن "المصلحة القومية" العربية تكمن في الوقوف مع الصهيونية ضد الأحلام الإمپراطورية القومية التي من حولهم." فالقوميون العرب منقسمون، والتيار السائد من القوميين العرب يتهم الشعب الفلسطيني بتعريض المستقبل العربي للخطر من خلال الاحتكاك بعناصر إقليمية تحلم بإمپراطورية قومية. ولذلك لا يمكن القول إنهم يذرفون أي دموع على أطفال فلسطين. بل إنهم يعتبرون حتى الدعاء لهم في حرم الكعبة أكثر من اللازم.

     وفي العالم الإسلامي أكثر العلمانيات صرامة هي بلا شك هياكل اشتراكية. وباستثناء بعض المجموعات التي لها علاقات معروفة مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، في العالم الإسلامي، أصبحت النزعة اليمينية المناصرة للولايات المتحدة ميتة بشكل عام. ولا تزال الاشتراكية القومية تتمتع بمكانة جدية سواء في الإدارات أو بين المتعلمين.

     الاشتراكيون احتضنوا لفترة من الوقت القضية الفلسطينية، خادمين أطروحة "العجز المكتسب" للصهاينة. لكن اليوم، جزء كبير من الجماعات الاشتراكية في العالم الإسلامي يشيد بشكل مباشر بالإبادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني. لأن الصهاينة يطعمونهم بتوظيفهم في مؤسساتهم. ومن ناحية أخرى، هم يشعرون بالقلق من أن النضال الفلسطيني سيعزز التوجه الإسلامي في العالم الإسلامي، وهو ما يعتبرونه خطرا على أسلوب حياتهم المتمحور حول الحانات. وبما أنهم ينظرون إلى الدنيا بمنظور اقتصادي، فالاشتراكيون يرون أن من "العقلاني" الوقوف إلى جانب اليهود بسبب المصالح الاقتصادية.

 

2. العلمنة (الخفية) العابرة للإيديولوجيات:
     في العالم الإسلامي ينتشر مذهب اللذة الاستهلاكية العابرة للإيديولوجيات، وهو أكثر انتشاراً من أي شكل آخر من أشكال العلمنة. والكيانات المنقادة للذة تنظر إلى الدنيا من نافذة ملذاتها فحسب. وتتمحور حياتهم اليومية خارج ساعات العمل حول الترفيه وممارسة أنواع مختلفة من الرياضة. فالكثير من الناس لديهم الإيمان في ذهنهم، لكن الإيمان ليس له مكان في أسلوب حياتهم. وهم إما يجهلون تطورات العالم، أو "ليس لديهم الوقت" للاستماع إلى ما يحدث في فلسطين لأنهم منشغلون بملذاتهم أو يعملون لكسب المال مقابل متعهم! الحياة الدينية بأكملها لهؤلاء الأشخاص، الذين أصبح الكثير منهم غير شاعر ولا مبال بمحيطهم، عبارة عن كثرة الحلف.

     قسم آخر من العلمنة الخفية يشمل هؤلاء المنقادين للذة وغيرهم، وهو التفكير وتحديد المواقف مرتكزاً على الاقتصاد. في الحقيقة، فكل من ينظر إلى العالم من منظور اقتصادي بحت هو علماني، بغض النظر عما إذا كان يسمي نفسه "علمانياً، معاصراً، حداثياً أو متطرفاً، تماماً أو إلى حد ما متديناً". من يصرح بذلك فهم علماني علناً، لكن الآخرون علمانيون ضمناً. على سبيل المثال، بغض النظر عن أسلوب حياته اليومي مهما كان، من يقول "أنا لا أنظر إلى دين الرجل أو عقيدته أو صلاته، أو شربه أو فحشه؛ فأنا أنظر إلى جيبي فحسب، أنا أصوت لمن يجعل حياتي أسهل في هذا المجال!" فإعلانه بذلك عن ترجيحه لمرشح في الانتخابات، يكون علمانياً بالمعنى الكامل. ولا يمكننا التوقع من أحد لديه هذه النظرة الدنيوية/العالمية أن يطلب من الحكومات اتخاذ قرارات جريئة فيما يتعلق بالقدس. فالقدس تتطلب التضحية والفداء، والتضحية يمكن أن تؤدي -معاذ الله- إلى الانكماش الاقتصادي!

     وأكثر قسم مجهول في العلمنة الخفية هو الجماعات الدينية التي تدعي أنها غير سياسية. والحقيقة، هي أنه في ظل الظروف السياسية الحالية، فإن الكيانات التي تدعي أنها غير سياسية هي كيانات علمانية، ولكنها علمانية في الخفاء، إلا إذا كانت تخدم أيضاً استراتيجيات تخدم الكل. نسخ وإصدارات مختلفة من هذه الكيانات تحظى بدعم من بريطانيا العظمى وأمريكا في الماضي، ومن مؤسسات مرتبطة مباشرة بالصهاينة اليوم. بل بعض أجهزتهم المنتشرة تصدر أخباراً مسببة للاشئمزاز والغثيان عن عملها بشكل مباشر مع الصهاينة في مسارات متنوعة لفترة طويلة.

 

3. انفصال الإحصائيات الفقهية عن مصالح المسلمين:
     الفقه يرتبط ارتباطاً مباشراً بمصالح المسلمين في المسائل التفصيلية. ومصالح المسلمين؛ مرتبطة بمرونة الفقه وحركيته.

     ومن المؤسف، أن بسبب بعض التيارات الجامدة في العالم الإسلامي والافتقار إلى علماء واثقين من أنفسهم، فقد الفقه مرونته عمليته الحركية. ووضع الفقه هذا ليس مسألة ثانوية، بل هو مصدر كارثة للمصائب التي تحل بالمسلمين.

     فاليوم، صارت المرونة والحركية في الفقه الممهدة للمسلمين الطريق في الاقتصاد كأنها منسية؛ وتسببت وجهات النظر الضيقة البعيدة عن المصلحة في بقاء المسلمين فقراء، معتمدين على الآخرين، ووقوعهم في الذنب.

     فالمسألة ليست الاقتصاد فحسب. فالآن يحتاج المسلمون عاجلاً إلى الحركية الفنية للتعبير عن أنفسهم للعالم. لكن من معوقات الحركية الفنية هي الآراء الشخصية أو الجماعية الضيقة التي تدعي أنها فقهية. بنفس الوقت، فالعديد من أثرياء النفط يزعمون أنهم يعتمدون على هذه الآراء الضيقة، فلا يدعمون الأنشطة الفنية الإسلامية، ولكنهم يمولون جميع الأنشطة الفنية العلمانية تقريبًا في العالم.

 

4. إخراج المرأة من الحياة الاجتماعية والسياسية:
     المرأة ليست نصف المجتمع فحسب، بل هي أيضاً عنصر إنساني أساسي مؤثر في الكل. فأي نشاط لا تشارك فيه المرأة يُعتبر معيبًا. لكن بسبب وجهات نظر متطرفة منتشرة في العالم الإسلامي، تكاد المرأة المسلمة أن تفقد حكيتها وفعاليتها. لأنه لا يتم التسامح مع المرأة بأي شكل في الحياة الاجتماعية والسياسية. وبسبب هذه القيود تبتعد المرأة المسلمة عن السياسة الإسلامية متتجهةً نحو الجوانب البشرية والحركات البشرية، وبالتالي تمر الأسرة المسلمة أيضا بأزمات.

     وحقيقة أنهم لا يملكون حتى التسامح في مناقشة القيود المفروضة على النساء والمستندة بالكامل تقريبًا إلى فتاوى متأخرة متناقضة مباشرة مع القرآن والسنة، لا شك أنها تفيد الصهاينة. وبينما يخيف دور المرأة في النضال في فلسطين الصهاينة، فإن مثل هذه التوجهات تسعد الصهاينة.

 

     وإضافةً لما سبق:

- العدالة ليست مركزا في السياسات ولا أساساً لها،

- ويتم الخلط بين النقد وتشويه االسمعة وحق التعبير بكرامة،

- في اللقاءات والاجتماعات الإسلامية استُبدلت دروس الوعي بمحتويات الجدالات اللاهوتية النصرانية في "القرون الوسطى"،

- والجزيرة العربية الحاوية للمدن الثلاث المقدسة لدى المسلمين، تمت تعبئتها وإحاطتها بالدعايات الطائفية الضيقة،

كل ذلك وغيره من الأسباب الأخرى لانعدام مبالاة واهتمام وتأثر المسلمين تجاه قضية القدس.

 

     أنتشاءم ونتطير؟
ورغم أن هذا الوضع لصالح عدونا ليس لصالحنا، قطعا لا!
لأن من يقول "الله أڪبر" لن يكون متشائماً.

     ومن ناحية أخرى، ففي المعركة بين الإيمان والقوة، رغم أن القوة قد تبدو منتصرة في البداية، إلا أن النصر في النهاية للإيمان. فحتى الآن، لم تنتصر القوة على الإيمان في أي عصر من التاريخ. يكفي أن يثبت أهل الإيمان.


(İLKHA)